أخبار الشرق الأوسط :
سيظل ابن النوبة .. ابن الأسكندرية ، الصوت الشجى .. صوت الغربة والترحال ، عايش فى قلوب جماهير مصر .. أوحتى بعد ان اعلن القدر عن وفاته جسدياً عام 1995 .. الا ان اغانية الحانية بروحه باقية فى وجدانا اكثر من مسامعنا حتى كتابة هذة السطور .. !
الفنان المصرى الآصيل ، الذى اثرى الساحة الفنية بعشرات الأغانى التى تعد من تراث النوبة والأسكندرية معاً ، بل تعد الأيقونة لهما بلا منافس ..و لطالما سمعناه يوماً بعد يوم وبكينا على احساسه ، فهو ملك الأحساس بلا منازع .. !
كنا صغار نلهو على الشط .. بينما هو يملاء الدنيا بألحانه وكلماته التى هى تعد مخزون فنى فى وجدان الشعب المصرى لا ينفذ ولا يبور وسيظل هكذا إلى أبد الأبدين ، ينطق صداه فى وجدان الفن المصرى ..!
وحينما جاءت كلمات الشاعر الكبير ( أحمد المستشار ) مغناوى ، معبرة عن حياته وترحاله .. انا جيت اغنى عن الغربة واليالى الصعبة وعن المكتوب والقدر .. وغرابة ياليل غرابة اصحاب اشواق وغلابة ..جربنا التوهة وتوهنا والليل يرجع يغلبنا ماهى نار الشوق غلابة ..!
نعم كان بعاده عن ارض النوبة بمثابة الوجع الذى اضناه .. وسفره وترحاله فى البحر لشهور جرح فؤاده وبكى روحه .. !
كم بكى وبكانا فى ( كفاية ) بعاد .. وهذا يعد اول البوم له .. وكان من انتاج ( صوت الدلتا ) لمالكها ( نصيف قزمان ) الذى اصبح مليونير بفضل بحر ابو جريشة .. بعد ان انتج ل عمر دياب ودخل عالم الكبار.. ثم مضى ( قزمان ) ينشىء الصحف الكبيرة مثل جريدة الفجر التى يترأس تحريرها ( عادل حمودة ) ..!
بحر هو الصوت الساحر الذى جرح القلوب بغناه ، كما أعطانا الأمل والدليل الذى ينير ليل العاشقين ..!
تميز ” ابو جريشة ” بجمال الصوت ، و الأغانى المرهفة الشعبية و الرومانسية و الحزينة ، والتي مثلت عند جمهوره أيقونة الفن الشعبي المتميز.. !
ربما لو قلنا أن قيمة ما قدمه البحر أبو جريشة للفن والذائقة الموسيقية والغنائية تضارع ما قدمه الفنانين أحمد منيب ، وعلي كوبان ، وحسن جازولي ، وغيرهم من بدعى النوبة واسوان الطيبة ..!
فلم نكن زدناه حقا على حقه، هو اكبر مما نكتب .. من دموعنا على فراقه .. فهو الصوت الدافى الحانى والحنون ، الذي وضع بصمة فى عالم الفن الشعبى
، وما تزال اغانيه وصوته معاً معضلة لا تجد تفسير صحيح لها إلى الآن ..!
كما انها لم تحلل التحليل الكافي ، الذى يرضى روحه ، ويرضى عشاقه ، وانا واحداً منهم .. تربيت على صوته وبكيت على الحانه .. خاصة فى اول البوم له ( كفاية بعدا ) حينما كنت ابكى على فراق ابى وهو تحت النار فى بيروت ..!
كما لم تدرس الحانه وشخصيته الفنية كما تستحق..!
ولا أعتقد إن اللون الموسيقى الذي قدمه ( بحر ) ينحصر في لون موسيقى النوبة .. بل تجاوزها ليصنع مزيجه الذي وإن حاولنا أن نجد له مسمى فسيكون أقرب للموسيقى (السواحيلي)التى نقلها الجنوبيين إلى الشمال في رحلات التجاره والترحال.. تعود أصول أبو جريشة لقرية ( قرشة ) بالنوبة والتى تم تهجيره أهلها لمدن القناة حينها، المعلومات المتاحة ترجح ميلاده في الاسكندرية و قضى حياته و اغلب عمره فيها، فكان رحمة الله عليه يعشق اسكندرية عشقاً خاص .. !
وقد عمل في بداية شبابه (صول بالبحرية) يغيب في البحر ثم يعود ليقيم حفلاته الغنائية وهذا ما نلاحظه في تجربة الغربة الممتدة بين اغنياته، بروح الفنان غامر أبو جريشة في أواخر السبعينيات .!
ودفعه عشقه لفنه إلى تسجيل أغنياته دون منتج .. فدفع من قوت بيته أجور العازفين والملحنين واستأجر استوديو حتى أتم له ما أراد لكن ذلك عرضه لضائقة مادية مما دفعه لعرض أغنياته لأى مشتر وتحت أى تعامل ولو دون مكسب حتى وجد في (نصيف قزمان) ضالته الذي قبل بالعرض وسانده وبدأ بتوزيع الشريط الأول له (كفايه بعاد) الذي حقق وقتها هو وشريطة الثاني (رحال) مبيعات مهولة لم تؤت لأحد غيره، فلم يكن منزل في مصر إلا ويحوي إحدى أشرطته، ومن صوت البحر بنى (نصيف) شركته فيما بعد (صوت الدلتا) وانتج أول ألبومات “عمرو دياب” الذي غنى مع بدء ظهوره أغنية أبو جريشة الشهيرة (وماله)، ومن هذه النقطة أنطلقت شهرة أبو جريشه ليظهر حتى على شاشات السينما في فيلم (إحنا بتوع الاسعاف) عام 1984 إخراج صلاح كريم وبطولة سمير غانم وإكرامي وأمين الهنيدي وأيضا في الفيلم الاستعراضي (رحلة حول العالم).
كذلك يوجد لبحر اسهامات فنية في المشاركة وتكوين اثنين من أهم الفرق المعبره عن هذه الذائقة المتميزة للموسيقى والغناء هي فرق (شمس حسين) و فرقة الفنان العالمي (علي كوبان) والتي لعبت الآلات الغير نوبية كالسمسية .. والأبوا .. والاوكورديون .. هذا فضلاً عن استحداث ايقاعات مغايرة كالتانجو والسمبا .. حيث أصبح لها بفضل ( كوبانة ) دورا هاما في منحها لونا متفرداً بين كافة الفرق الآخرى..!
ربما كانت من هنا الانطلاقة الساطعة ، والمبهرة التي تركت حتى الآن وستظل بصمتها مفارقة، ربما أعقبها خفوت محزن يتوازى مع تعاقد أبو جريشة مع شركة (فلفل فون) ل (سيد نصر) _أول منتج لأنغام فيما بعد_ والذي قلص كثيرا من قدرات الفنان الذى بداخله ، وحجمها ، وصبغها بصبغة أقل من قدراته الفنية ونجوميته وانتشاره فى ربوع مصر من الأسكندرية إلى النوبة القديمة والسودان .. كفنان مغاير .. وروح فنية خالصة ، حتى تراجع نجمه تباعاً للدرجة التي معها بدأ يعود للغناء على مسارح الدرجة الثالثة فى الأسكندرية على مسرح الحبايب وما شابه ذلك .. وتعبت نفسه واصبح لا يطيق حتى الخوض فى اى حوار .. واسدل الليل ستاره على فنان جميل احببناه وعشقناه ومازلنا ، إلى ان اختفت اخباره حتى انتهت رحلة الصوت الشجي في مارس 1995.
لكننا لن نساه ابداً ، وسيظل هو نجمنا المفضل حينما تلمع عينانا فى شمس إسكندرية .. فاليوم فى بعده يمر بألف يوم .. والليل وسهره ساب فى قلوبنا الهموم .. تحياتى إلى روحه العطرة .!