أخبار الشرق الأوسط _ مصر
على عتبة الوطن العربى جلس ،لم تكن المصطبة من الرخام البارد .. بل هى من الرمال الساخنة ، يغوص فيها بقدميه وتحضتنه وكأنها امواج بحر طيب لا غادر ..!
هذا الشاب الريقى القادم من الغربية فى بداية الستينيات من القرن الفائت .. واعنى ( المحلة ) وما أدراك من عقول المحلة واقران الفكر والثقافة ، ورفاق الدرب ، وصراع الهوى ، وشركاء الغربة فى بلاد الله ..!
انسكب ضوء القمر على قلبه ،فأنعكس على وجهه فتوهج بالنور وبالعلوم ، والثقافات ، واللغات المتعددة ، لم يكن أستاذ فى الأدب واللغة العربية فحسب ، بل هو فيلسوف فى علوم النسانية بكل ماتحمل الكلمة من معنى ومشتقاتها ، ومفرداتها ، ومرادفاتها .. هو بحر طامى متجدد المنابع ، يفيض بالحكمة ، بعذوبة التعبير وجمال الألفاظ .. مدافعاً عن الفضيلة فى زمن الرجس الدينى ، وعن الحكمة والكلمة فى عصر مصاصى الأفكار و العقول ، محاولاً بفكره وحكمته وضع مشروع ثقافى كبير يستعيد من خلاله الدولة الثقافية لا البوليسية ، كاشفاً للضوء .. ساكباً من عقول الجهلاء الأفكار البالية .. ليعطرها بحروف تسرى فى الروح والوجدان وتعيش طويلاً فى العقول والأزمان ، فتتمتم الشفاة بعبارات الدهشة من مشروعه الثقافى .. من بوتقة الوعى التائهة ، لتستقر من سفرها وترحالها الطويل ، لتبنى ماهدمه الجهل وترفع العمدان كناطحات السحاب ، فتعيش الكلمة وتثمر وتطرح فى الأرض الطيبة بالكلمة الطيبة ” التى هى أصلها ثابت وفرعها فى السماء ” ..!
لم يطرق لنا باباً على الحكمة ولا المعرفة الا وقد فتحه على مصراعيه ، بروح الأنسان المحب للعقل المستنير ، ليجعل من قوة العقل وجوداً فى الدنيا التى نحياها ونتمناها ..فلا تصل الدنيا إلى قلمه بفقرها ، ولا تقاس بغناها ، ولا يلتفت هو فى لحظة من اللحظات إلى سعادتها ولا شقاها .. لأنه وجود من العطاء عبر نصف قرن من الزمان ، فلا وجود للعمر ولا تقاس حياته بما قضى من سنين ، بل تقاس بما عاش من سعادة على اعتاب الصفحات وبحور الأحبار وقلاع المجدات والمراجع والكتب .. هو الوجود السحرى الذى يزداد سحراً بالكلمات .. عاش على ضفاف الكتب ” كالأمير ” عقوداً حتى صار الملك .. ملك الأدب فى عالمنا الذى نعيش على ضفافه حالمين ، لم يجد فى فكره فرقاً بين المال والتراب ، بين الملك والصعلوك .. يهيم فى سماء اللغة .. إذ اللغة العربية فى وجدانه أجمل احساس يعيشه .. مااروع تلك النشوة الروحية التى تمتلكه فتجعله يحسها إحساس الدم المتدفق من شرايين الحياة والوجود .. بنظرة طويلة تعقبها على العدم وعقم الفكر الذى يسرى فى العقول الميتة .. على هذا الرجس الدفين فى قلوب البشر حينما تصل لمرحلة السوداوية فى غابة الميتافيزيقيا التى تحرق كل ليلة الف الف قلب ..!
انه ملك الأدب العربى .. الدكتور ” جابر عصفور ” أستاذ الأدب فى جامعات العالم وليس فى جامعة ” عين شمس ” فحسب .. !
هاهى جائزة النيل .. ارفع الجوائز فى مصر تمنح له أخيراً .. بعد ان بخل عليها هو عقوداً وعقود مترفعاً عليها .. لتتشرف أرفع الجوائز فى مصر بأسمه وتهتف باسمه .. لتقارن بأسمه وبتاريخه الأدبى والتنويرى .. لم يمر قطار العمر عباءأ منثورا ولا عام 2019 بعد ..!
لم يمضى الا ويعلن عن تكريم الملك وتتويجه بتاج من نور لا بذهب .. !
الحق أقول لكم .. إن الجوايز العالمية لم تظهر للوجود الا بالأسماء الكبيرة التى حصلت عليها ، وشرفتها بأسمها وبتاريخها ، وعطاءها .. فجائزة ” النيل ” المصرية تعد جائزة عريقة ، ومهمة وهامة ، ولكنها لم تزداد أهميها الا بمن منحت لهم ..!
وأنى اهنىء جائزة النيل .. لا الدكتور جابر عصفور .. لأنه اكبر واسمى واغلى واعلى من كل الجوائز العالمية وعلى رأسها ” نوبل ” لا لشيء الا لعطاءه الغير محدود فى الأدب ، والفكر ، والفلسفة الأنسانية ، فتاريخ الرجل يحتاج منا موسوعة كاملة باسمه .. فتاريخه حافل بالعطاء الفريد ، بهذا النسيج المتجد فى سطر وضعه ، فى كلمة خطها بقلمه ودفعها عقله لتبحر وتعيش فى العقول حتى يوم يبعثون ..!
يشهد الله أنى على مدار سنوات .. عشت فيها تائهاً متردداً .. وكم سألت نفسى .. متى تكتب عن ملك الأدب .. الدكتور ” جابر عصفور ” ..؟! وهو الذى طوق عنقى بموقف واحد اعتبرته بمثابة جائزة ” نوبل ” فى الأداب تمنح لى على غفلة من الزمن .. بل هى تشبه لحظة ” ليلة القدر ” التى تصرف للموعود ..!
وأذكر فى شتاء عام 2004 .. كنت قد دخلت إلى مبنى المجلس الأعلى للثقافة .. أبحث عن رئيسها لأمطره بوابل من الكلمات هى أقرب إلى شواظ من نار تحرقه .. واشكى له كيف كانت وزارة الثقافة تحاربنى وترفض الأعتراف بى كشاعر عامية بين يديه مشروع شعرى كبير عن جدنا ” بيرم التونسى ” وكان بعنوان ” جانى فى منامى ” ووسط الأنفعالات والصوت العالى والثورجة ونار الشباب .. خرج علينا هذا الرجل :
(( أقسم بالله كانت أول مرة أشوفه واتعرف عليه )) .. لم يتعامل معى بعنجهية ولا غرور ولا سلطوية المسؤل الحكومى فى الدولة البوليسية القمعية .. بل سحبنى من يدى برفق وحنان الأب ، وادخلنى إلى غرفة مكتبه .. وطلب لى مشروب ، واغدق على من فرط أبتسامته الصافية ، ليهدأ من غضبى وثورتى .. ووعدنى بحل المشكلة ومنحته نسخة من مشروعى الشعرى .. لم يجد هذا الكريم الا مجموعة أعمال الشاعر الأديب ” حسين عفيفى ” الشعرية والنثرية .. ليقدمها لى على سبيل الهدية .. مانحاً إياها لى كأكبر منحة ثقافية خرجت من ثنايا ” المجلس الأعلى للثقافة ” اعتقد هو لا ينسى هذا الموقف .. لأنى أسمعته شعراً فأعجب به .. وقال لى :
(( ماتستجلش على نفسك يا أستاذ أحمد .. سوى فكرك واعرف انت عايز ايه ورايح فين .. والأيام خير دليل ..! )) .
وتحولت من الثائر إلى قبطان يمخر بسفينته على موج هادىء فى بحر كرم وجود الرجل المسؤل الكبير .. الذى كان من حقه ان يطلب لى الشرطة ويحبسنى .. حملت الكتب وكأنى قد أشتريت عمارة على الزمالك .. وصرت مبتسماً اتيه فخور بنفسى لأنى منذ لحظات كنت جالساً وجهاً لوجه مع قامة الأدب العربى الدكتور ” جابر عصفور ” .!
وانى اليوم لأخجل من نفسى ، ويخجل من الكلمات قلمى لأنه جاء اليوم الذى يتجرأ فيه على الكلمات ويكتب عن ” جابر عصفور ” الفيلسوف الذى لم يترك مفكر اً ، ولا فيلسوفاً ، ولا أديباً ، سواء عربى او أجنبى الا وقد منحه صك الأعتراف به .!